ما دفعنى لكتابة ونقل هذا الموضوع هو ان البعض من الناس يظلمون العلماء ويفترون عليهم الكذب فى الخلافات الفقهيه
وكل فرد منهم يريد ان يضع نفسه هو العالم الجليل و الفقيه الوحيد
مما يوقعه فى الخطاء الشنيع
و تعصب لمنهج و فكرة و مذهب تعصب اعمى بدون فكر او علم او حتى ابسط الامور هو الفهم الصحيح و النقل الامانى عن شيخه او عن مذهبه
ولهذا اصبح هذا المتذهب ضال مضل بغير علم
حيث شهد تاريخ التمذهب الفقهي كثيرًا من صور الشرود عن الجادة، والخروج على الفهم الصحيح للمذاهب الفقهية والانتصار لها، بل الخروج عن الأصول التي وضعها أئمة المذاهب أنفسهم، ومن ذلك:
أ- المغالاة في أئمة المذاهب، ورفع أقوالهم الاجتهادية إلى مرتبة النصوص الشرعية وربما ترفع هذه الأقوال فوقها، وربما وضع البعض أحاديث في الانتصار لهذا المذهب أو ذاك، مع أن أئمة المذاهب لم يضعوا أنفسهم في مصاف الرسل والمعصومين إنما هم بشر يؤخذ منهم ويرد، وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم, قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه, وذلك هو الواجب عليهم, فقال أبو حنيفة: هذا رأيي فمن جاء برأي خير منه قبلناه, ولهذا لما احتج أفضل أصحابه أبو يوسف, أتى مالكًا فسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضراوات, ومسألة الأجناس. فأخبره مالك بما يدل على السنة في ذلك, فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله, ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله. ومالك كان يقول إنما أنا بشر أصيب وأخطئ, فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة. أو كلامًا هذا معناه.
الشافعي كان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط, وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي. وفي "مختصر المزني" لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال: مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء: والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدني ولا تقلد مالكًا, ولا الشافعي, ولا الثوري, وتعلم كما تعلمنا فكان يقول لمن قلده: حرام على الرجل أن يقلد في دينه الرجال, وقال: لا تقلد في دينك الرجال, فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا"(54).
وقال النووي: "صح عن الشافعي رحمه الله أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي", وروي عنه: "إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث واتركوا قولي, أو قال: فهو مذهبي"(55).
ب- التفسيق والتبديع أو التكفير للمخالفين، أو يحكم على المخالف بما هو من لوازم ذلك كعدم الصلاة خلف أصحاب المذاهب الأخرى، أو عدم الزواج من نسائهم وغير ذلك من أوجه التعصب التي وصلت إلى حد الاقتتال بين المذاهب أو تعدد الأئمة والجماعات في المسجد الواحد، بل ربما يمتنع شخص من الصلاة في مسجد لأن إمامه يجهر بالبسملة أو يطيل ثيابه أو نحو ذلك، وهذا ناشيء من عدم الفقه.
ج- الهجر والخصومة والبغضاء والسب ونحوه بين أنصار المذاهب المختلفة، ويظهر هذا جليًا في كتاب المحلى لابن حزم، وربما انتقلت عدوى ابن حزم إلى الكثير من أنصار المذاهب الأخرى.
د- عدم مراعاة خلافهم عند الفتوى، وقاعدة مراعاة الخلاف قاعدة معتبرة قال بها وانتصر لها كثير من الفقهاء المحققين، ووضعوا لها شروطًا؛ ولهذا يفرق كثير من العلماء في الفتوى بين السؤال عن مسألة وقعت أو لم تقع فإذا لم تقع أفتى فيها بالمذهب وبالقول المعتبر عنده فإذا وقعت تلمس لها مخرجًا لدى عالم آخر وإن خالف مذهبه، ومن ذلك مثلاً:
ما ذكره المواق المالكي "البيوع المكروهة التي اختلف أهل العلم في إجازتها إن فاتت لم ترد مراعاة للخلاف، واختار اللخمي أن لا ترد مطلقًا"(56)، وغالبًا ما يحتاج إلى مثل هذه القاعدة في تصحيح الأنكحة المختلف في صحتها بعد وقوعها فمن نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل عند الشافعية وصحيح عند الحنفية فلا يجوز لشافعي أن يقضي بالبطلان بعد وقوعه وإن قال به قبل وقوعه.
هـ- اعتقاد بطلان المذاهب المخالفة لمذهبه، ولا يمنع هذا اعتقاد مذهبه بأنه الحق إنما الخطأ اعتقاد بطلان المذاهب الأخرى فضلاً عن تفسيقها ورميها بالخروج على الشريعة والإسلام وتكفير أصحابها.
و- الإنكار على المذاهب الأخرى فيما لم تخالف فيه نصًّا أو إجماعًا، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: "ولا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على من اجتهد فيه أو قلد مجتهدا فيه"(57)، وفي البحر المحيط "والمسائل الاجتهادية لا إنكار فيها على المخالف, ولا فسق؛ لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد لا نعلمه ولا إثم على المخطئ"(58)، ومن المسائل التي نص الفقهاء عليها تطبيقًا لهذه القاعدة أنه إن تزوج رجل بامرأة وهما مختلفان في المذهب فلا يلزم الزوج زوجته بمذهبه، فإذا اختلفا مثلاً في غسل نجاسة على مذهبه وليست بنجس على مذهبها فلا يُلزمها بمذهبه، كما جاء في مطالب أولي النهى: "وله إلزامها بغسل نجاسة إن اتحد مذهبهما, وإن اختلف بأن كان كل منهما عارفًا بمذهبه عاملاً به, فيعمل كل بمذهبه, وليس له الاعتراض على الآخر؛ لأنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد. ويجوز له أن يصلي فيما طهرته له على مذهبها وعكسه"(59).
وليس معنى لا إنكار في المختلف فيه ترك تحقيق المسائل والترجيح بينها وبيان الضعيف منها، ولكن المقصود منع الزجر فيها والاحتساب عليها.
ونختم بما ذكره الشيخ سعيد حوى رحمه الله في كتابه "جولات في الفقهين الكبير والأكبر وأصولهما في التعصب المحمود والمذموم": وأما التعصب لهم- أئمة الاجتهاد- أو لمذاهبهم فنقول فيه: التعصب المذهبي إن كان كأثر عن قناعة مطلقة في قضية بأنها الحق، وبالتالي أن يتمسك بها صاحبها قولاً وعملاً، ويدافع عنها بمنطق الحق والعدل، لا بمنطق الهوى، وبمنطق الإخلاص لا بدافع دنيوي، وبروح الأخوة الإسلامية لا بروح الفرقة الكافرة، فذلك لا حرج فيه، بل ذلك الذي عليه الصحابة، ولكن أن يضيِّق الإنسان واسعًا؛ بأن يسفه من ليس على رأيه، ويضللهم، ويجهلهم في قضيةٍ للاجتهاد فيها محل، فذلك الخطأ كل الخطأ، فإن الشافعي قال: أجمع العلماء على أن الله لا يعذب فيما اختلف فيه العلماء.
والتعصب للمذهب كأثر من آثار الثقةِ بعلمائه، وقواعده في الاستنباط، وكأثر من آثار الثقة بهذه الأمة التي أجمعت خلال العصور على احترام المذاهب الأربعة، واحترام أئمتها، هذا التعصب الذي لا يرافقه كراهية لمذهب آخر، ولا سوء أدبٍ معه، بل الاحترام والتقدير، لا حرج فيه، وأن يأخذ الإنسان بوجهة نظر لغير مذهبه كأثر من آثار تحقيقه هو، أو تحقيق من يثق به، فهذا كذلك لا حرج فيه"(60).