المرأة وحقوقها في الحرية
أوًلاماذا نعني هنا بالحرية ؟
من الوا ضح أننا لا نعني هنا الحرية الداخلية ، أي قدرة الإنسان على تحكم بذاته والتحرر من قوانين
بشريته ، فهذا الجانب لا يهمنا هنا ، وذلك سواء فيما يملك الإنسان القدرة على التحكم فيه داخليًا ، أو لا
يملك ذلك ، وإنما نعني بالحرية هنا الحري َ ة الخارجية ، وهي مدى المرون ة التي يتمتع بها الإنسان في التعامل
مع العالم المحيط به ، من حيث سائ ر الأنظمة و الأنشطة التي تتجلى فيه
ثانيًا]ما موقف الإسلام من هذه الحرية عندما يرغب الإنسان أن يتمتع بها ؟
إننا إن لاحظنا علاقة الإنسان بالله علمنا أن الإنسان لا يملك أي حرية تجاهه ، أي إن الإنسان لا
يتمتع بأي مرونة سلوكية خارج النطاق أو المجال الذي أُذن له بالمرونة فيه ، وذلك لأن الإنسان عبد مملوك
لله عز وجل ، و كل من أيقن بوجود الله عز وجل يعلم هذا ، فالعبد المملوك لا يملك التمتع بأي حرية تجاه
سيده المالك ، وهذا هو معنى قولنا الإنسان مكلف]؛ أي هو مسؤول عن جملة وظائف ومهام كلفه الله
بها ، ومن ثم فإنه لا يملك أن يتصرف إلا ضمن ما قد أذن له الله فيه
غير أن هذا التكليف الذي يحول دون ممارسة المكلف لحريته بالتصرف ، لا تظه ر آثاره إلا في
الحياة الآخرة التي سماها الله تعالى يو م الحساب ، كما سماها يوم الجزاء ؛ حيث يتعرض المتحرر عن قيود
التكاليف لأنواعمن العقاب آنذاك ، كما يلاقي المتقيد بأوامر الله وأحكامه أنواع المثوبة والأجور الممتعة ،
أما في دار الدنيا ، فإن السبل أمام الإنسان تظل مفتحة تمكنه من فعل ما يشاء ومن التصرف على الن حو
المرأة وحقوقها في الحرية ، د.محمد سعيد رمضان البوطي 2
الذي يريد على الرغم من أ ن التكاليف تظل تلاحقه ما دام بالغًا راشدًا ، فهو بهذا المعنى وضمن هذا
النطاق يملك حريته ؛ إذ هو غير ممنوع من التصرف في فجاج الحياة على النحو الذي يريد
وقد عبر بيان الله تعالى عن هذه الحرية الدنيوية التي أتاحها للإنسان بأبلغ تعبير يؤكد الحرية العاجلة
ويحذر من النتائج الآجلة في هاتين الآيتين
أو ً لا]حرية العمل ]:
إن الأعمال المشروعة التي أباحها الإسلام للرجل ، هي ذاتها التي أباحها للمرأة ، والأعمال الشائنة التي
حرمها الله على الرجال هي ذاتها التي حرمها على النساء
غير أن الله تعالى ألزم الرجال بآداب سلوكية و اجتماعية ، فاقتضى ذلك أن تكون أعمالهم التي
يمارسونها خاضعة لتلك الضوابط والآداب ، وألزم النساء أيضًا بآداب سلوكية واجتماعية ، فكان عليهن أن
لا يخرجن في أعمالهن التي تمارسنها على شيء من تلك الأحكام والآداب
فعلى سبيل المثال إن الله فرض على المرأة التقيد بمظاهر الحشمة ، و حرم عليها الخلوة بالرجال الأجانب
كما حرم عليهم ذلك ، فلا يجوز لها أن تمارس من الأعمال ما قد تضطرها إلى الخلوة أو إلى التخلي عن
حشمتها المطلو بةكما أنه لا يجوز للرجل أن يباشر من الوظائف أو الأعمال ما قد يزجه في خلوة محرمة
أو يعرضه للفتن ة من جراء اختلاطه بنساء غير ملتزمات بضوابط الحشمة المطلوبة ، فإذا انتفى هذا المحذور
]وهو محذور في حق كل من الرجل والمرأة كما قد رأينا كان للمرأة أن تمارس أي وظيفة من
الوظائف المشروعة ، كما كان لها أن تباشر أي عمل من الأعمال المباحة في أصلها ، سواء كانت صناعة
أو زراعة أو تجارة أو غير ذلك
غير أن الأعمال الوظيفية والمهنية عندما تتزاحم بحكم المتطلبات الأسرية و الاجتماعية ، فلا مناص
عندئذ من اتباع ما يقتضي ه سّلم الأولويات في تفضيل الأهم ، فما دونه ، فما دونه ، من حيث رعاية
الضروريات ثم الحاجيات ثم التحسينيات منمصالح المجتمع
إن المرأة المتزوجة التي أنجبت أطفا ً لا ، يلاحقها المجتمع بطائفة من الأعمال الكثيرة ، التي لا تقدر
في الأغلب على النهوض بها كلها ، فهي ملاحقة برعاية زوجها و توفير مقومات إسعاده ، وهي ملاحقة في
الوقت ذاته برعاية أطفالها و تربيتهم ، كما أنها بحكم ثقافتها و اختصاصها العلمي الذي تتمتع به ، مدعوة
إلى أن تساهم في خدمة مجتمعها من خلال وظيفة تعليمية في إحدى المدارس ، و قد تكون ذات نشاط
اجتماعي فهي مدعوة بحكم مزيتها هذه إلى أن تبذل من نشاطها هذا ما تساهم به في الخدمة في رعاية
مجتمعها وحل بعض مشكلاته ، لكن الوقت لا يسعفها في النهوض بسائر هذه المهام و الوظائف ، و هي
كلها جيدة و مفيدة ، فما الحل الذي يجب المصير إليه ؟
وجوب رعاية سلم الأولويات
ليس ثمة حل منطقي سليم إلا اللجوء إلى ما تقتضيه رعاية سّلم الأولويات ، وسّلم الأولويات فيما يقرره
سائر علماء الاجتماع يقول إن نهوض الزوجة الأم بمسؤولية رعاية زوجها وتربية أولادها والعمل على
تنشئتهم النشأة الصالحة ، يرقى إلى مستوى الضروريات من مصالح المجتمع، و ذلك لأن صلاح الأسرة هو
الأساس الأول لصلاح المجتمع ،فإذا فسدت الأسرة وعصفت بها رياح الفوضى والإهمال، فإن سائر الأنشطة
المرأة وحقوقها في الحرية ، د.محمد سعيد رمضان البوطي 4
العلمية و الثقافية يتبعها سائر القوى والمدخرات الاقتصادية ،لا يمكن أن يحلّ محل الأسرة في إقامةالمجتمع
على نهج سو ي ]إن المجتمع كان ولا يزال هو التابع لحال الأسرة وما هي عليه من صلاح وفساد ، ولم
يثبت عكس ذلك في وقت من الأوقات ، وانطلاقًا من هذا الواقع ، فإذا لم تتمكن الزوجة الأم من الجمع بين
النهوض بمهام الأسرة ، والأنشطة الثقافية والاجتماعية الأخرى ، فإ ن عليها]فيما يقضي به اتباع سلم
الأولويات أن توفر وقتها للنهوض بالضروري الذي هو السهر على رعاية الأسرة ، وإن اقتضى ذلك
التضحية بوظائف وأعمال أخرى ،ويزداد الحق في هذا الذي نقوله وضوحًا، عندما تجد الزوجة نفسها مندفعة
إلى الوظيفة أو العمل ، لمجرد طمع في وجاهة اجتماعية أو لمجرد رغبة في التمتع بمزيد من المال إنها في
هذه الحالة تغامربدون شك بحياتها الزوجية أو بالسعادة التي ينبغي أن تشيع بينها وبين زوجها، كما أنها
تغامر بما قد يكون أهم من ذلك ، ألا وهو رعاية الأولاد و التفرغ لحسن تربيتهم في سبيل هو ى من الأهواء
العابرة ، وابتغاء متعة سرعان ما تتحول إلى أعباء ثقيلة من المغارم ، ولكي يتيسر السبيل أمامالمرأة للتقيد
بمقتضى سلم الأولويات هذا ، وكي لا ترى عنتًا في إلزامها نفسها بذلك ، فقد كفتها الشريعة الإسلامية مؤونة
النفقة على نفسها و أولادها ،ووفرت لها الجهد الذي كان ينبغي أن تبذله لذلك ، وذلك عندما ألزمت الزو ج
بالإنفاق عليها وعلى أولادها